
بقلم محمد جابر
في زمن صار فيه الإنسان يصك كما تصك المعادن بتقنية عالية الدقة ووفق قوالب مسبقة الصنع نعيش اليوم داخل أسطمبة كونية شكلت على مقياس حضاري معين وسبكت من عناصر متعددة صهرت جميعها في بوتقة واحدة قيل إنها التنوع لكن غطاؤها كان العولمة وباطنها الأستيلاب الثقافي.
لقد تحول الفرد في مجتمعاتنا إلى منتج قابل للتسويق يحمل رقما تعريفيا ثقافيا جديدا لا يشبه جذوره اللغة اللباس نمط الحياة حتي مأكله بل وحتى أحلامه لم تعد تصدر من الداخل بل تستورد من الخارج كما تستورد التكنولوجيا والسلع. إنها هندسة جديدة للإنسان يعاد تشكيله فيها ضمن أنظمة ثقافية ضخمة تصهر المحلي داخل العالمي دون أن تتيح له فرصة المقاومة أو التعبير.
ولم يكن هذا الانصهار بريئا فهو لا يعترف بالفروقات الدقيقة بين المجتمعات بل ينكرها باسم التوحيد وهو توحيد مموه يخفي خلفه اختلالا في ميزان القوى ويفرض على الهويات الصغيرة أن تذوب في هوية كبرى لا مكان فيها للضعفاء ولا صوت فيها إلا للأقوى.
إن الثقافة التي تعرض علينا عبر المنصات الرقمية ليست مجرد فنون وأفكار بل أدوات تشكيل ناعم للعقل الجمعي. والجيل الجديد يعاد تشكيله عبر مصفوفة رقمية لا ترى لكنه يُبرمج بواسطتها، كما يبرمج الروبوت ليؤدي مهمة محددة دون اعتراض.
نحن إذن أمام مشهد تكنولوجي الطابع لكنه روحي الأثر. أدواته شبكات التواصل وخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي يعاد صياغتها من حين لآخر للأنتقال الي مستويات يجب تحقيقها مدعاه أن محتواها سلع ثقافية معولمة. هذا الاستلاب المتقن لا يمارس بالعنف بل بالإقناع لا يفرض بالقوة بل بالإغراء حتى يغدو المرء غريبا في موطنه مألوفا فقط عندما يحاكي الآخر.
فهل نحن بحاجة إلى كسر هذه الأسطمبة؟
أم إلى إعادة صهرها بمكونات محلية تحفظ للإنسان ملامحه الأصلية؟
هذا هو السؤال الذي لا بد من طرحه قبل أن نصحو ذات صباحٍ لنجد أنفسنا نسخة من نموذج لم نختره ولم نشارك في تشكيله.