
بقلم: نورهان التمادي .
في زحمة الحياة وتقلباتها، قد يجد الإنسان نفسه في صراع داخلي بين مشاعر متضادة، فرح غامر يعقبه حزن عميق، اندفاع مفاجئ يتبعه خمول مرهق. هذه الحالة ليست مجرد “مزاج متقلب”، بل قد تكون عرضًا لمرض نفسي يُعرف بـ”اضطراب ثنائي القطب”؛ مرض مزمن يحتاج إلى وعي وتفهم، لا إلى حكم أو وصمة.
ما هو اضطراب ثنائي القطب؟
اضطراب ثنائي القطب هو حالة صحية نفسية تتميز بتقلبات مزاجية شديدة تشمل نوبات من الهوس (الفرح المفرط، الثقة الزائدة، النشاط الزائد) تتبعها نوبات من الاكتئاب (الحزن العميق، فقدان الحافز، الانسحاب الاجتماعي).
هل في الدين ما يعين المريض؟
قد يتساءل البعض: ما موقف الإسلام من هذه الحالات؟ وهل يجد المريض في القرآن والسنة ما يواسيه ويهديه؟ الجواب: نعم، بل إن الإسلام يقدّم دعماً روحياً متيناً يعزز العلاج الطبي والنفسي.
- المرض النفسي ليس نقصًا في الإيمان
يعتقد البعض أن المرض النفسي، كالاكتئاب أو الهوس، هو ضعف في الإيمان، لكن هذا غير صحيح. فالقرآن الكريم يبين أن الحزن والضيق يصيبان حتى الأنبياء.
قال تعالى عن نبي الله يعقوب عليه السلام بعد فقد ابنه يوسف:
“وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَۖ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ” [يوسف: 84]
هذا الحزن لم يكن دليلاً على ضعف الإيمان، بل هو دليل على إنسانية القلب وقوة المحبة.
- نوبات الهوس: بين طاقة مفرطة وسلوك متهور
في فترة الهوس، يشعر المريض بطاقة كبيرة وقد يتخذ قرارات متهورة. وهنا تبرز أهمية الضبط الذاتي، وهو ما حث عليه الإسلام في كل حين.
قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
“ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” [رواه البخاري ومسلم].
التحكم في الانفعالات هو فضيلة إسلامية، والمريض يحتاج إلى بيئة تساعده على التوازن، لا على اللوم.
- نوبات الاكتئاب: حين يثقل الحزن الروح
في الجانب الآخر من الاضطراب، يعيش المريض نوبات من الاكتئاب العميق، وقد يشعر بانعدام القيمة أو القنوط من رحمة الله. وهنا تأتي عظمة الخطاب القرآني:
“قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا” [الزمر: 53]
هذه الآية تمثل نوراً في ظلام الاكتئاب، تدعو المريض ألا يفقد الأمل، وأن يتشبث برحمة الله مهما اشتدت حالته.
- العلاج لا ينافي التوكل
الإسلام حث على أخذ الأسباب، والعلاج النفسي والدوائي جزء من تلك الأسباب. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً” [رواه أبو داود والترمذي].
فالمؤمن يُؤمن بالقدر ويأخذ بالأسباب، فلا يترك العلاج بدعوى “الصبر فقط”، بل يجمع بين الصبر والدواء والدعاء.
- الدعم الأسري والمجتمعي: مسؤولية جماعية
اضطراب ثنائي القطب يحتاج إلى دعم من الأهل والمجتمع، لا إلى عزلة أو تجريح. الإسلام يدعو إلى التراحم والتكافل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” [رواه البخاري].
فبدلاً من الإدانة أو التنمّر، يحتاج المريض إلى من يفهمه، يحتضنه، ويعينه على الاستمرار في العلاج.
خاتمة: لا خجل من الألم
اضطراب ثنائي القطب ليس عيبًا ولا دليلاً على ضعف، بل هو ابتلاء من الله يُكفَّر به الذنوب، ويُرفع به الدرجات لمن صبر واحتسب وسعى للعلاج.
“وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ” [البقرة: 155]
الوعي، العلم، والرحمة هي مفاتيح تجاوز هذا الاضطراب، بإذن الله.
دمتم في أمان الله .