غير مصنف

الوسواس القهري.. صراع داخلي بين العقل والإيمان

بقلم: نورهان التمادي

في خضم الضجيج الداخلي، يعيش المصاب بـ”الوسواس القهري” صراعاً مريراً بين المنطق والقلق، بين ما يراه حقاً وما تفرضه عليه أفكاره القهرية من شكوك وتخيلات لا تنتهي. إنه اضطراب نفسي شائع، لكنه لا يزال محاطاً بكثير من الغموض، خصوصاً في مجتمعاتنا التي تمزج بين الموروث الديني والفهم العلمي.

ما هو الوسواس القهري؟

اضطراب الوسواس القهري (Obsessive Compulsive Disorder) هو حالة نفسية مزمنة تتسم بأفكار مزعجة ومتكررة (وساوس) تدفع الشخص إلى أداء أفعال معينة بشكل قهري ومتكرر، في محاولة للتخفيف من حدة التوتر الناتج عن هذه الوساوس.

من أمثلة الوساوس: الخوف الشديد من التلوث، أو الشك في الطهارة والصلاة، أو الحاجة إلى الترتيب المثالي. أما الأفعال القهرية فقد تكون: غسل اليدين بشكل مفرط، التحقق المتكرر من إغلاق الأبواب، أو إعادة الوضوء والصلاة عدة مرات.

الوسواس في ضوء القرآن الكريم

الوسواس ليس ظاهرة جديدة، بل ورد ذكره في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى:
“مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ” [الناس: 4]في إشارة إلى الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، ثم يخنس (يختفي) إذا ذُكر الله. وهنا نجد أن الوسواس مذكور كأداة من أدوات الشيطان في الإفساد والتشويش على الإنسان.

كما قال تعالى:
“وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم” [الأعراف: 200]فيه توجيه صريح بالاستعاذة بالله عند الشعور بالوسوسة، وهو ما يعكس بعداً روحياً عميقاً في التعامل مع هذه الحالة.

الرسول الكريم وتعامله مع الوساوس

وردت أحاديث نبوية متعددة عن الوسواس، منها ما رواه مسلم أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: “إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به”، فقال النبي:
“ذاك صريح الإيمان”.
وفي رواية: “الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة”، أي أن كون الشخص يتألم من الوساوس ويكرهها، فهذا دليل على قوة إيمانه لا ضعفه.

كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
“لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليستعذ بالله، ولينتهِ.” [رواه مسلم]وفي هذا توجيه عملي: الاستعاذة والانتهاء عن متابعة تلك الوساوس.

العلاج النفسي والدوائي

علمياً، يُعالج الوسواس القهري بأسلوبين أساسيين:

  1. العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يساعد المريض على تحدي الأفكار الوسواسية وتغيير سلوكياته القهرية.
  2. الأدوية: مثل مضادات الاكتئاب من نوع مثبطات استرداد السيروتونين (SSRIs)، والتي أثبتت فعاليتها في تقليل الأعراض.

كما تشير الدراسات إلى أن التوازن بين العلاج النفسي والروحي (كالاستعانة بالله، والذكر، والطمأنينة بالصلاة) يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير في رحلة التعافي.

وصمة المجتمع… ومعاناة الصامتين

رغم الانتشار الكبير لهذا الاضطراب، إلا أن كثيراً من المرضى لا يطلبون المساعدة خوفاً من نظرة المجتمع أو اتهامهم بقلة الإيمان. وهنا لا بد من نشر الوعي بأن الوسواس القهري هو اضطراب نفسي، لا يدل على ضعف شخصية أو خلل في العقيدة، بل هو مثل أي مرض آخر يحتاج للعلاج والرحمة لا للتوبيخ واللوم.

خاتمة

اضطراب الوسواس القهري ليس نهاية المطاف، بل بداية رحلة نحو التوازن. فكما أن الله خلق الإنسان ضعيفاً، فقد فتح له أبواب الرحمة والعلاج. وعلينا كمجتمع أن نمد يد الفهم والدعم، لا أن نضيف إلى عبء المريض عبئاً جديداً من الوصمة والخجل.

دمتم في أمان الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى